فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَميلُواْ ميلاً عَظِيماً} [27].
{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: من المآثم والمحارم، أي: يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى، وكمال مضرة ما يريده الفجرة، كما قال سبحانه: {وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ} أي: ما حرمه الشرع، وهم الزناة.
{أَن تَميلُواْ} عن الحق بالمعصية.
{ميلاً عَظِيماً} يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم.

.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً} [28].
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ} أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم.
ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه، ونظير هذا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: من الآية 185]، وقوله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
{وَخُلِقَ الإِنسَاْن ضَعِيفاً} أي: عاجزاً عن دفع عن دفع دواعي شهواته، فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه، فالجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع.
وفي الإكليل: قال طاووس: ضعيفاً أي: في أمر الناس لا يصبر عنهن.
وقال وكيع: يذهب عقله عندهن، أخرجهما ابن أبي حاتم، ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضار تركه.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [29].
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض.
{بِالْبَاطِلِ} أي: ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة، والغضب والسرقة والخيانة، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل.
{إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} أي: معاوضة محضة كالبيع.
{عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ} في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: {تِجَارَةٌ} بالرفع على أن كان تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال، تجارة.
قال السيوطيّ في الإكليل: في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن هاهنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، لأن التراضي أمر قلبي فلابد من دليل عليه.
وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا. انتهى.
أي لأن الأقوال، كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً، فصح بيع المعاطاة مطلقاً.
وفي الروضة الندية: حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى: والمراد ها هنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم، لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك وبعتك فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى: {تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي: صفة كان وبأي إشارة مفيدة، حصل. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فيه وجهان:
الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.
والثاني: النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه، وقد احتج بهذه الآية عَمْرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ قَالَ: لَمّا بَعَثَه رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَامَ ذَاتِ السّلاَسِلِ- قَالَ- احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصّبْحِ- قَالَ- فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ».
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنَ أَهْلَكَ وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ، «فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئاً».
وهكذا أورده أبو داود، قال ابن كثير وهذا، أي: المعنى الثاني، والله أعلم، أشبه بالصواب، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه والوعيد عليه.
روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «مَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنّمَ، يَتَرَدّى فِيهِ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً، وَمَنْ تَحَسّى سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسَمّهُ في يَدِهِ، يَتَحَسّاهُ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِداً مُخَلّداً فِيهَا أَبَداً».
وأخرج الشيخان عنه رضى الله عنه- قَالَ شَهِدْنَا خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِرَجُلٍ مِمّنْ مَعَهُ يَدّعِى الإِسْلاَمَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النّارِ».
فَلَمّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرّجُلُ أَشَدّ الْقِتَالِ، حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ، فَكَادَ بَعْضُ النّاسِ يَرْتَابُ، فَوَجَدَ الرّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُماً، فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ.
فَاشْتَدّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللّهِ، صَدّقَ اللّهُ حَدِيثَكَ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ: «قُمْ يَا فُلاَنُ، فَأَذّنْ أَنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِنٌ، إِنّ اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ». وهذا لفظ البخاريّ.
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: أُخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرجل قتل نفسه فقال: «لا أصلي عليه».
وفي الصحيحين من حديث جُنْدب بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكّيناً فَحَزّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدّمُ حَتّى مَاتَ، قَالَ اللّهُ عز وجل: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ».
ولهذا قال تعالى:

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} [30].
{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: القتل.
{عُدْوَاناً وَظُلما} أي: متعدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، أي: عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه.
{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} أي: ندخله.
{نَاراً} أي: هائلة شديدة العذاب.
{وَكَانَ ذَلِكَ} أي: إصلاؤه النار.
{عَلَى اللّهِ يَسِيراً} هيناً عليه، لا عسر فيه ولا صارف عنه، لأنه تعالى: لا يعجزه شيء.
قال النسفي: وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره، لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته. انتهى.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مّدْخَلاً كَرِيماً} [31].
{إِن تَجْتَنِبُواْ} أي: تتركوا.
{كَبَائرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، مما ذكر هاهنا ومما لم يذكر.
{نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي: صغائر ذنوبكم، ونمحها عنكم، وندخلكم الجنة، كما قال تعالى: {وَنُدْخِلْكُم} في الآخرة.
{مّدْخَلاً كَرِيماً} أي: حسناً وفي الجنة، و{مدخلاً} قرئ بضم الميم، اسم مكان أو مصدر ميمي، أي: إدخالاً مع كرامة، وبفتح الميم، وهو أيضاً يحتمل المكان والمصدر، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وردّ على من قال: إن المعاصي كلها كبائر، وإنه لا صغيرة.
قال الإمام ابن القيم في الجواب الكافي: قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقال تعالى: {الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ} [النجم: من الآية 32].
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر، فتأمّل هذا، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟».
قُالوَا بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتّكِئاً فَقَالَ: «أَلاَ وَقَوْلُ الزّورِ- ثلاثاً-».
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ».
قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الإشّرْكُ بِاللّهِ، وَالسّحْرُ، وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ، وَأَكْلُ الرّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ».
وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود- رضى الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم- أي: الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أَكْبَرُ؟، قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهْوَ خَلَقَكَ».
قُلْتُ ثُمّ أي:؟ قَالَ: «ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ».
قُلْتُ ثُمّ أَىّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، الآية.
ثم ساق الخلاف في تعدادها.
وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبين لكتاب الله عز وجل، أمين على تأويله، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد، كما تكلفه جماعة من الفقهاء، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود، وإن منها ما ليس جامعاً، ومنها ما ليس مانعاً، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.
وقد ساق الحافظ ابن كثير هاهنا جملة وافرة منها وجوّد النقل عن الصحابة والسلف والتابعين، فانظره فإنه نفيس.
ثم نهى تعالى عن الحاسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس بقوله:

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} [32].
{وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ} أي: أصابوا وأحرزوا.
{وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ} أي: أصبن وأحرزن، أي: لكل فريق نصيب مما اكتسب في نعيم الدنيا قبضاً أو بسطاً، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له.
وقد روى الإمام أحمد عن مجاهد أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنّوْاْ} الآية. ورواه الترمذيّ وقال: غريب.
ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: ثم أنزل الله: {أَنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عِمْرَان: من الآية 195]، الآية فإن صح هذا فالمعنى: لكلٌ أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه، فلا تتمنوا خلاف ذلك، ولا مانع من شمول الآية لما يتعلق بأحوال الدنيا والآخرة، فإن اللفظ محتمل ولا منافاة، والله أعلم.
{وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} أي: من خزائن نعمه التي لا نفاد لها، وقد روى الترمذيّ وابن مردويه عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «سَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يُحِبّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ».
{إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} ولذلك جعل الناس على طبقات رفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية، قاله أبو السعود.